في كل ذكرى لـ 23 يوليو .. أتذكر كلمات لأحمد عباس صالح كتبها في مذكراته "هل جاءت ثورة 23 يوليو لتحقيق حلمنا في الديمقراطية أم لإجهاض هذا الحلم" و الذي كان في طور مراحل متقدمة من التكوين ..
بقراءة التاريخ كنت دائما اميل للرأي الثاني .. بما أني من أولئك الذين يرون أن قيم الحرية و العدالة تعلو كل قيمة .. و لذا ربما كنت أحمل بعض التقدير لإنجازات الفترة الناصرية و التي كانت الخيارات الوطنية فيها واضحة .. إلا إن تأسيس حكم ديكتاتوري يقوم على القهر دمر أجيالا و أضاع كل إنجاز فيما بعد..
و كما قال الجواهري في ناصر "كان عظيم النصر و الأخطاءِ" ..
و حتى حين كتب النجيب محفوظ روايته "أمام العرش" عاقدا محاكمة لكل من حكم مصر عبر تاريخها .. ليكون الحكم على ناصر بــأنه و رغم أرتكابه أخطاء عظيمة ..ادخله مقام الخالدين بنوع من الرأفه أعتقد أن نجيب كان متأثرا فيها بكاريزمية ناصر و شعبيته الطاغية ..
هذه الكاريزما التي جعلت شاعرا مدهشا كنزار قباني الذي كتب بعد النكسة عن "كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة" ملمحا لخطابات ناصر الحماسية و عن إلقاء العدو في البحر و كتب عن "إذا خسرنا الحرب فلا غرابة .. لأننا ندخلها بمنطق الطلبة و الربابة .. بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة.." .. يكتب قصيدة من أجمل ما يكون في الرثاء و هو يرى الجماهير بالملايين تبكي ناصر و تسير في جنازته "قتلناك يا اخر الأنبياء و ليس غريبا علينا قتل الأنبياء" يا للشعر و أصحابه!!
ربما أفضل ما يمكن قراءته لفهم هذا الجيل و أفكاره و الذي تفاعل مع تلك الشعارات القومية ليرتفع لعنان السماء .. و تتكسر أجنحته بقسوة عند لحظة الاختبار في 67 و ما تلاها .. رواية "الحب في المنفى" للمبدع الرقيق الرائع بهاء طاهر .. هو من ذلك الجيل المأخوذ بالتجربة و ستأخذك متاهاته المرهقة حتى تُنهي سطر الرواية الأخير و عندها تثور أسئلة بلا انتهاء !!
حين أقرأ بأنه كان في مصر قبل 23 يوليو .. ملك يملك و لا يحكم .. و رئيس وزراء مُنتخب و نظام سياسي يمتلك ناصية التطور .. فيجب أن يجتاحني شعور بأن هناك 60 عاما ضاعت من عمر الوطن في ظل استبداد و ظلم حتى الموعد القادم و الذي كان في 25 يناير بثورة شعبية حقيقية -لا انقلاب عسكري- و التي لا زالت في طريق تثبيت دعائمها لمحو تحكم العسكر في مسار أمة منذ
60 عاما.
كانت ميزانيات القصر و الجيش معروفة للشعب و أوجه إنفاقها كذلك .. طلب الملك فاروق يوما مخصصات مالية لتركيب مصعد في القصر .. فرفض البرلمان قائلا بأن العائلة المالكة لديها ما يكفي من مخصصات مالية .. و حين طلب الملك من وزير الداخلية تفريق المتظاهرين أمام قصره رفض الوزير "فؤاد سراج الدين" قائلا بأنهم يعبرون عن رأيهم حتى و لو كان حادا
أتذكر مقالا لصلاح منتصر بعد 55 عاما على 23 يوليو ليكتب:
"
قبل ٥٥ سنة كانت معظم البنوك في مصر تملكها رؤوس أموال أجنبية، فيما عدا بنكي مصر والأهلي، وفي خلال مسيرة الثورة تم تمصير البنوك الأجنبية، وبعد ٥٥ سنة يعود الوضع إلي ما كان: البنوك أجنبية فيما عدا مصر والأهلي أيضا بعد بيع بنك القاهرة
من ٥٥ سنة كان تعداد مصر ١٨ مليونا وكانت ميزانية الدولة ٢٠٠ مليون جنيه، وكان الجنيه الواحد يشتري ٢٠٠ رغيف و٣٠٠ بيضة
وخمسة كيلو لحمة و٦٠ زجاجة لبن و٥٠ سلطانية زبادي وقدرة فول، ما أعظم التغيير الذي حققناه؟
صلاح منتصر ٢٣/٧/٢٠٠٧
"
و مقال اخر لجمال الشاعر في نفس المكان عن الطربوش و الثورة:
"
عندما ظهرت القبعات العسكرية التي يرتديها الضباط الأحرار تراجعت الطرابيش, واختفت تدريجيا من الحياة المصرية, وكأنما قد صدر قرار بإحالتها إلي الاستيداع. هل كان زمن الطربوش أجمل؟! روبير سولي مؤلف رواية الطربوش يري ذلك, وهو الذي عايش الحياة المصرية فيما قبل الثورة
ولد في القاهرة وعاش في مصر17 سنة ثم عاد إلي فرنسا وأصبح فيما بعد رئيس تحرير جريدة اللوموند. عندما تقرأ الرواية تحس أن مصر كانت مملكة كوزوموبوليانية عالمية مفتوحة علي كل الثقافات الفرنسية والإنجليزية واليونانية وخلافه, وتجد فيها الأرمن والشوام واليهود وتلمس ازدهار الفنون والآداب والصحافة, وترصد طموح المصريين في وثبة حضارية
كانت مصر ثاني دولة بها أوبرا بعد إيطاليا, وأول دولة في العالم الثالث وفي إفريقيا بها سكك حديدية وقطارات.وكانت في مصر ديمقراطية مدهشة وحراك سياسي رائع تجلي في زمن سعد زغلول العملاق الذي كان غاندي يخاطبه في رسائله بقوله: يا أستاذي.. هل يفهم من هذا أن الطربوش رمز لفترة حراك ثقافي عالمي وديمقراطي تقلصت بعد الثورة؟!
يحكي أن الشاعر حافظ إبراهيم قابله رجل أمي في عربة الترام وأعطاه جوابا ليقرأه له, فأراد حافظ إبراهيم أن يتخلص منه فقال: لا أعرف القراءة, فقال الرجل الأمي متعجبا: كيف وأنت ترتدي الطربوش ياسيدنا الأفندي؟! خلع حافظ إبراهيم الطربوش ووضعه فوق رأس الرجل وصاح فيه: الطربوش فوق رأسك.. تفضل اقرأ أنت
الطربوش وثورة يوليو
"
كل ما يتمناه المرء دون البكاء على ما فات أن يستوعب الجميع دروس الماضي القاسية
فلا يظنن العسكر بأنهم قادرون على تطويع ثورة شعبية صلبة العود!
و أن يدرك من يلعبون السياسة بأن الديمقراطية و اجب لا اختيار و أن قوتهم في ضمان حرية و وجود كل المختلفين دون لعب على أوتار الانتماءات ..
الإخوان المسلمون هم أكثر من يجب منهم التعلم من تلك التجرية القاسية عليهم بدءأ من حل الأحزاب و موافقتهم على ذلك و مظاهرة عابدين الكبرى التي كانت حتما قادرة على إعادة الامور لنصابها لولا السذاجة و إيثار مكسب آني على مصالح كلية للوطن و كان النتاج إعدام العملاق عبدالقادر عودة و من بعده اللامع سيد قطب و هو أول من اطلق كلمة ثورة على انقلاب 23 يوليو .. مرورا يتجربة المعتقلات و انتهاء بالخوف التنظيمي المفرط من الخطوات الثورية و التحرك بلا استراتيجية واضحة يغلب عليها رد الفعل المرتبك أكثر منه قدرة على المناورة و كسب النقاط .. ربما حلقات الأستاذ الرائع فريد عبدالحالق في شاهد على العصر مع الإعلامي أحمد منصور تمثل تأريخنا نقديا لتلك الفترات العصيبة.
هذا بعضا مما كان و الله المستعان
القاهرة