الجمعة، 26 يناير 2007

العملية


العملية
بقلم‏:‏ أسامة الدناصوري
‏أمي‏:‏ لا تهدري الوقت في الدعاء لي بالشفاء‏,‏ ادعي لي فقط‏..‏ بألا تتوقف عمليتي‏).‏العملية هي روح الغسيل‏,‏ هي الهواء الذي يتنفسه‏,‏ إذا توقفت توقف الغسيل بالضرورة‏,‏ لكنهم يحتالون علي ذلك‏,‏ بإعاشته علي التنفس الصناعي‏,‏ فيركبون للمريض قساطر في الصدر أو الرقبة أو الفخذ‏,‏ القساطر لا تدوم ويجب ألا تدوم ففي النهاية‏,‏ لابد أن يعود الغسيل إلي الهواء الطلق‏..‏ إلي العملية‏.‏
عمليتي الأولي استمرت ثماني سنوات ونصف السنة عبرت بها وحدة الاستقامة‏,‏ ومركز فيصل ورافقتني ثماني سنوات كاملة في الهدي‏,‏ إلي أن وصلت بها سالمة إلي وحدة الزمالك لكنها أخيرا كفت عن الحياة ـ مثل كل حي ـ وتوقفت‏.‏كنا يومها في الاسكندرية‏,‏ ذهبنا في الصباح أنا وسهير‏,‏ ومرتجي وعيشة إلي العجمي‏,‏ نزلت أنا ومرتجي لنسبح‏
‏سبح مرتجي‏,‏ وبلبطت أنا‏,‏ ثم عدنا في المساء
‏في الفجر‏,‏ ونحن نائمون عند أمي في شوتس‏,‏ صحوت فجأة إثر إحساسي بوخزة صغيرة‏,‏ وضعت ذراعي علي أذني اليسري‏,‏ كانت هامدة تماما‏,‏ لم أسمع الصوت الأليف المعتاد ـ‏(‏ جوو‏,‏ جوو‏,‏ جوو‏)‏ تحسستها بأصابعي‏,‏ كان الوريد متليفا ومبروما كالحبل‏
‏لقد تجلط الدم إذن وانسدت العملية‏
‏كانت العملية في نهاية ذراعي الأيمني‏,‏ بالقرب من يدي وكانت تنتهي بانتفاخ في الوريد يظل ينبض كقلب صغير أحبها الأطفال جميعا إذا كانت صالحةتماما كلعبة حية لامثيل لها يلمس الطفل البالونة الصغيرة‏,‏ فتلمع عيناه‏,‏ فأبادر أنا بوضعها علي أذنه‏,‏ فيسمع الصوت القوي الذي يشبه صوت‏(‏ ماكنية الطحين‏)‏ وعندما يسأل أخبره بأن هناك جهازا كهربائيا صغيرا مزروعا هنا‏
‏‏(‏أنا نفسي كنت أتصور ذلك في البداية‏).‏ إلي أن فهمت أن العملية هي عبارة عن جسر‏,‏ أو وصلة‏,‏ بين شريان ووريد‏,‏ الأوردة علي السطح بالقرب من الجلد أما الشرايين فتختفي في أماكن أعمق‏
‏يفتح الجراح الذراع‏,‏ ويبحث عن الشريان حتي يجده ثم يبرزه علي السطح‏,‏ ويفتح به فتحه يقوم بخياطتها في فتحة أخري في الوريد‏,‏ فيصير الوريد شريانا‏,‏ أو ذيل شريان‏,‏ يتدفق فيه الدم قويا‏,‏ آتيا من القلب مباشرة‏.‏لقد رأيت بعيني العملية الثانية‏,‏ خطوة خطوة‏:‏ حقنة البنج الموضعي‏,‏ المشرط وهو يشق ذراعي الأيسري بالقرب من يدي‏.
‏ثم لغوصة الدكتور في أحشاء ذراعي‏,‏ وإخراجه الشريان معلقا في سبابته‏.‏كان عبارة عن أنبوبة بيضاء‏,‏ مدرعة بحلقات تشبه الأكورديون‏.‏أمسكه بمشبكين معدنيين قبل أن يفتح بينهما فتحة صغيرة وقبل أن يخيطها في فتحة الوريد‏,‏ انتبه إلي‏,‏ فأسدل الممرض علي الفور ملاءة‏,‏ حالت بيني وبين ما يفعل‏.
‏توقفت تلك العملية بعد إجرائها بأسبوعين وقبل أن تكون جاهزة للاستخدام‏.‏نصحتني داليا بالذهاب للدكتور خالد الهنداوي‏,‏ الذي أجري عملية ناجحة لرفاعي‏,‏ مازالت تعمل منذ سنوات‏.‏أجري لي د‏.‏ خالد عملية جديدة في ذراعي الأيسري‏,‏ علي بعد كاف من العملية السابقة‏,‏ غسلت منها لشهرين‏,‏ ثم توقفت فانتقل إلي الذراع الأيمني‏,‏ وأجري واحدة في منتصف الذراع تماما‏,‏ عند المفصل‏,‏ غسلت منها ستة أشهر‏,‏ ثم توقفت أيضا‏,‏ بعد أن تسببت في تورم ذراعي بشكل مخيف‏.‏
وأخيرا أجري لي واحدة في أعلي ذراعي الأيسري‏,‏ بالقرب من إبطي‏(‏ زرع وريد‏),‏ يعني أنه بحث عن وريد قوي في العمق وأعاد زرعه علي السطح‏,‏ وأوصله بالشريان‏.‏مازالت العملية الأخيرة صالحة إلي الآن‏,‏ منذ ما يقرب من عامين أتمني ألا تتوقف هذه العملية أبدا‏,‏ وإن كان ولابد لها أن تتوقف في النهاية فلتعش معي إذن أطول فترة ممكنة‏.
‏لقد استنفدت كل الأماكن الصالحة في ذراعي‏,‏ ولم يتبق سوي حل وحيد‏,‏ وهو زرع وريد صناعي في فخذي‏.‏عندما كانت تتوقف العملية‏,‏ أذكر أنني كنت أسرع في نفس اليوم‏,‏ أو في الصباح التالي علي الأكثر إلي مستشفي صيدناوي‏,‏ وأتوجه مباشرة إلي غرفة العمليات في الدور الثالث‏,‏ للقاء د‏.‏ جمال روفائيل طبيب التخدير‏,‏ لم يكن يحتاج لأي شرح‏,‏ بمجرد رؤيتي يدخلني مباشرة إلي غرفة العمليات الصغري‏,‏ ثم يشرع في تركيب القسطرة‏.
‏‏(‏قسطرة نائمة في الوريد‏,‏ تنتهي بمدخل ومخرج صغيرين‏,‏ يتم التركيب منهما‏,‏ والغسيل لمدة شهرين حتي تلتئم العملية الجديدة‏,‏ وتصبح جاهزة للاستخدام‏). ‏في آخر مرة حاول د‏.‏ جمال تركيب القسطرة في الصدر‏,‏ في الجهة اليمني أولا‏,‏ ثم في اليسري‏,‏ وأخيرا حاول في الرقبة الجهة اليمني أولا لم يستطع السلك المرور من الأوردة الثلاثة‏.‏كانت الأوردة مسدودة تماما‏,‏ بسبب الجلطات التي تكونت جراء تركيب القساطر في المرات السابقة‏.‏
عندما استطاع السلك المرور من الوريد الرابع في الجانب الأيسر من رقبتي‏,‏ تنفس د‏.‏ جمال الصعداء وقال‏:‏ـ أف‏..‏ أخيرا لقينا عندك وريدا سالك‏.
‏أنت لازم تعمل أشعة دوبلكس علي الرقبة والصدر‏,‏ عشان نشوف أية الحكاية‏.‏لن أذهب إلي الدكتور جمال بعد ذلك‏,‏ ولن أركب أي قسطرة في رقبتي‏.‏
فعمليتي الحبيبة‏,‏ التي أحتضنها بحنان تحت إبطي‏,‏ والتي أطمئن عليها في اليوم مائة مرة‏..‏ ستظل حية‏,‏ وستظل ترفسني برفق كجنين في شهره السادس‏.
‏سأواظب علي التربيت عليها بالكمادات الدافئة‏,‏ وعلي دهنها بالهيموكلار‏.
‏حتي يظل وريدها غضا‏,‏ ومكتظا بالدم والحياة0
……………………………………..
آخر ما خطه قلم أسامة الدناصوري قبل رحيله متأثرا بمرضه العضال
جريدة الأهرام - قصة الجمعة - الجمعة 26 يناير 2007
...................................................


هل غصت في أجواءها كما غصت أنا ؟ , هل التحمت بكلماتها ؟ .. هل ذاب وجدانك في رحاب كلماتها؟ .. هل ترقرق الدمع في مقلتيك مثلما في مقلتي ترقرق؟
هل أستطيع هنا أن أقول بأن الأدب حقا وليد معاناة كبيرة .. أن الألم الإنساني يجعل من الروح كائنا نورانيا شفافا يسبح في الضياء ..أظن أنني أستطيع قول ذلك و أكثر , و هاك الدليل الذي إن أردته , فعد للحكاية من البداية.
عبدالعظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق