الخميس، 16 أغسطس 2012

"بين الحبة و القبة "فصل أول

مشهد افتتاحي:

"يعمل من الحبة قبة"  ذلك مثل ابتكره المصريون بعبقريتهم المشهودة و هم أكثر من يطبقونه فى حياتهم بنفس الصورة .. و المعنى أن الأشياء تبدو كبيرة كهرم، ثقيلة كمجن و هي فى حقيقتها المفككة أقل كثيرا مما تصورنا.

المصريون مولعون بالمبالغات حتى فى نمط حديثنا (أنا من أولئك القوم .. لازال الأصدقاء يتعجبون من ذلك المصري صاحب الضحكة العالية و الكلمات المنبهرة تحفة و هايل و رائع و واو .. و هلم جرا .. لكن الأمر ليس حسنا دائما .. فقط هو ضروري لإثبات مصريتك أو هو  إجباري من تلك الجينات المصرية).

 إن فاز فريق كرة فالفراعنة قادمون و إن أخطأ أحدهم فى عدد سنوات مسيرتنا الحضارية قائلا بأنها لا تعدو 5 الاف عام .. انبرينا له بل هي  7 الاف و ربما أكثر ..  نطبق المثل المصري العبقري "ادعي على ابني و أكره اللي يقول امين" .. ننتقد الوطن و البشر و الحجر فإن جاء غير مصري ادلى بدلو شماتة أو انتقاد لاذع كان الرد دفاعا مستميتاً حتى عن أخطاءنا و نردد مع صلاح جاهين:

على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندي أحب و أجمل الأشياء
بحبها و هي مالكة الدنيا شرق و غرب
بحبها و هي مرمية جريحة حرب
أحبها بعنف و رقة و على استحياء
و اشتمها و ألعن أبوها بعشق زي الداء
 (رابط القصيدة كاملة هنا)

ليس هناك من شعب يذوب عشقا فى وطنه كما المصريون .. يحبونها على أي حال حتى و إن علاها التراب و علا مشاعرهم صدأ الحرمان .. و لكننا نحبها أكبر حين يتجلى فيها معاني الإباء .. تلك بداية

مشهد أول:

ثارت المخاوف و انتشرت أقاويل القوم عن المجلس العسكري و قوته و هل من سبيل للتخلص منه لنستكمل المسيرة .. بدا الأمر جبلا شاهقا بحق .. لكن مرسي فعلها بقفاز ناعم رقيق و مر الأمر كأنه حلم سريع لم نصدقه حتى اللحظة..
كان الصباح التالي أجمل إشراقات أيام مصر .. يوم بدون عسكر فى الحكم لأول مرة منذ انقلبوا على مليكهم



 كان خروجا  سلسلا للعسكر  لم يثيروا قلاقل و لم يحدث الانقلاب الذي تسابق الجمع فى تحديد موعده (حتى أن شباب الإخوان و الثوار تدافعوا فى حركة محمودة للميادين دفاعا عن قرارات الرئيس) .. و لا أعرف هل كان تقبُل الأمر من قِبل الجنرالات بهذه السلاسة هو نتيجة صفقة الخروج الآمن كما روج البعض أو لأن هناك ملفات سوداء تتعلق بالفساد و صفقات السلاح تجعلهم فى موقف لايحسدون عليه (يقال بأن مدير المخابرات المقال مراد موافي سربها للرئيس) أو أنها الفروسية المصرية المعتادة (ربما نكون أشراراً بعض الشيء ..  لكننا لسنا مجرمين)
أيا يكن الأمر .. كان الإخراج أنيقا للغاية : إحالة للتقاعد و ميدالية من الذهب المطعم بالياقوت و كلمة قوية لكن برقة من الرئيس فى احتفال ليلة القدر  (ما اتخذته من قرارات ليست موجهة ضد مؤسسة أو أفراد و لا تقييد حرية من خلقهم الله أحرارا و إنما لمصلحة الوطن)  يا لأناقة الكلمات !


كلمة الرئيس مرسي فى ليلة القدر


يذهب الجنرالان ليقابلا رئيسهما و يحصلا على ميداليتهما يلتقطان الصور معه .. و هكذا يُسدل الستار (مشهد كلاسيكي من أفلام الفرسان)  الأمر يستحق التحية على الإخراج اللائق بحق.



فيديو مراسم منح قلادة النيل لطنطاوي وقلادة الجمهورية لعنان

تبقى هناك مسألة الحقوق .. هؤلاء تسببوا فى قتل ثوار طوال العام و النصف الفائت .. فلندع للساسة حساباتهم و لنا حساباتنا .. يجب أن نكافح حتى يلقى من أذنب أو تسبب فى قتل مصريين خطأً كان أو عمدا المحاكمة العادلة ليشفي الله صدور أمهات أُحرقت أكبادهم حزنا على مفقوديهم و ليكن مُثبتا فى تاريخنا الحاضر بأنه لا إفلات من العقاب .. إنها دروس أولية فى تثبيت مبدأ سيادة القانون (نتذكر كلمة الرسول الكريم حين تشفع كبار صحابته فى إمرأة من أشراف القوم سرقت: و الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .. لا فرق بين وزير و غفير الكل أمام القانون سواء)

مشهد ثانٍ:

الدكتور مرسي الرجل الإخواني شديد التدين شديد الالتزام  (تنطلق المدافع: سيأخذ بلادنا لشاطىء اخر على مركب أصولي إخواني .. الدولة المدنية فى مهب الريح و الأصولية اجتاحت البرلمان و القصر) .. لكن هاهو الرجل فى منصبه رئيس مصري صميم .. لائق المنصب عليه تماما (هل تتخيل الآن أحدا مكانه بعد ما اتخذه من قرارات) .. المسافة تبدو واضحة  بين كونه رئيس منتخب و شيخ متدين و إخواني عتيق .. تقبلناه بسهولة لكن بعد معاناة (نتيجة شك مزمن و ماكينة إعلامية خربة) .. بذقنه الكثة قليلا و قامته الأقل طولا قليلا من سابقه (كان يخجلني منظر المخلوع و هو قصير القامة بجوار رؤوساء أمريكا مثلا .. ففى مصر عمالقة و لاعبي كرة سلة كُثر يصلحون للمنصب أكثر منه .. و أظن ذلك كان انعكاسا نفسيا للحالة المتردية و تقزيم الوطن التى وضعنا فيها ذلك الرجل)  .. لكن قامة مرسي اليوم  لا تبدو مشكلة إطلاقا و إنما ترى فيها ذلك الذكاء و الخبث اللطيف فى نظرات مرسلة  من تحت نظارة طبية كما ينبغي لأستاذ جامعة و مهندس شاطر (الشاطر هنا صفة و ليست إشارة لأي اسم) و رئيس حاذق أيضا.

رجل يلبس الجلباب الرمادي المخطط و يصلي الفجر حاضرا و يخطب فى الناس بلغة عربية رصينة و ثقافة دينية عريضة و بلا ورقة (مسألة تثير الفخر حقا بعد أن كانت الوريقات بخطها العريض و لغتها الركيكة تعبق أجواء أهل الحكم) .. رجل يمشط شعره على الجنب (مثل جل المصريين الذين يحاولون كثيرا إيجاد وضع مريح لشعرهم ثم يستقر الأمر على شعر قصير و مده بامتداد الرأس بالجنب .. ربما كان الحافز أيضا ذلك الخوف التاريخي من الصلع). انتفض الرجل غضبا  (قولا و فعلا) كما يليق برجل صعيدي لمن أخذوا غدرا فى رفح و كانت قراراته بلا مساومة و لا تردد ( السكين فى الزبدة يبدو مثلا غير كافٍ تماما هنا)

تبقى كلمات

لدينا رئيس تركزت بيت يديه سلطات يخاف منها أولو العزم و صادقي النوايا من البشر .. لذا وجب فتح الأعين واسعا جدا و الدفع بقوة و عدم الارتكان لثقتنا فى الرجل و تقواه (فالتجارب التاريخية تحكي الكثير عن عظماء أخذتهم السلطة المطلقة بعيدا فكانت المفسدة المطلقة و انتشر القول بأن السلطة هي ضرع اللذة الذي لا يُرجى منه فطام .. نريد فطاما سريعا رحمكم الله)

أمران:

المعتقلون واجب إطلاقهم بلا تأخير و لا إبطاء .. و الرجل يجتهد فى ذلك

أما الأمر الآخر: فهو الكفاح حتى يستقر نظامنا السياسي تماما فى هيكل مؤسسي نرضى عنه و نطمئن أن ماكينة الديمقراطية التى حلمنا بها حتى هرمنا وجدت طريقها فى دستور عادل و قصر مؤمن بمبادئها بلا مواربة و مجلس شعب يعبر عنها و يؤكدها و قضاء يتابع و يحميها .. ليغمض شعب عيونه قريرة بالذي كان و لتأتي أجيال تحصد جميل هذه الأيام العظيمة (الرئيس دعا فعلا لحوار وطني حول الصلاحيات التشريعية التى بين يديه).

علينا الحذر من المرجفين فى المدينة الذين تغلبهم مصالحهم الذاتية و أفقهم السياسي الضيق و انتمائهم للزمن الذي أدبر بلا عودة .. الذين لا يرون إنجازا و لا عملا حسنا فيما كان .. كل ما يرونه هو مصالحهم المبنية على فساد مضى يتوقون لعودته أو خصومة سياسية  تعميهم عن صالح عام و مستقبل وطن (الكلام هنا عن شخصيات مالية و إعلامية و إدارية يعلمها الجميع) .. لهم حق الكلام (ضريبة الديمقراطية) .. لكن لنا كل الحق فى تمييز الغث و رفضه (بالكلام أيضا و بالقانون و نشر الوعي).



عبدالعظيم التركاوي
برلين رمضان/أغسطس 2012