كتابات السيرة الذاتية عصارة بديعة لأفكار أصحابها و توجهاتهم في الحياة.. حتى لو كنت مختلف مع أفكارهم، الاقتراب الإنساني في حكايتهم يحملك في الغالب لبعض الفهم و أحيانا التفهم للخلفيات التاريخية و النفسية مع الاحتفاظ بمساحات الاختلاف و تقدم صورة بانورامية عن العصر و رجاله خاصة إن قرأت للأضداد.. و لذلك قرأتها متعة حقيقية.
هنا بعض من تلك الكتب و التي تحمل متعة الحكاية و المعرفة..
- مشيناها خطى
كتاب صغير الحجم للمؤرخ رؤوف عباس و واحد من أجمل كتابات السيرة، كتبها الكاتب متأثرا بأسلوب أستاذه طه حسين في الأيام.. شاب نشأ بإعاقة جعلته في خجل دائم يتغلب عليه بالاجتهاد حتى أصبح أستاذا للتاريخ و رئيس لجمعية المؤرخين و سيكون شاهدا حادا و قلقا في عصور مصر من الملكية حتى مبارك و سيقدم تجربته اليابانية بثراء مدهش و ممتع.
- رحلتي الفكرية: في البذور و الجذور و الثمار
يكتب عبدالوهاب المسيري بشكل مختلف يتتبع فيها مراحل نموه في مجتمع دمنهور التراحمي و انتقاله لاحقا للاسكندرية ليدرس الأدب الإنجليزي ثم رحلة أميركا و الكويت و تنقله بين مدرسة الأخوان و الماركسية ثم عودته لجذوره الأصيلة .. و ثمار كل ذلك في موسوعته الشهيرة و ليصبح أشهر فلاسفة مصر في القرن الماضي و هو يفكك المصطلحات و يعيد تركيبها ليصيغ مدرسة كبيرة أثرت في جيل كامل و هو يقود حركتهم في الشارع محققا ببساطة مقولته الآسرة أن المثقف مكانه الشارع.
دا واحد من أعظم الكتب اللي قرأتها في عمري كله و رفيقي الأول في كل رحلة.
- جورج أورويل متشردا في باريس و لندن
كتبها الكبير أورويل عن أيام بؤسه و هو يتنقل بين ملاجيء باريس و لندن باحثا عن عمل و عن وجود في عالم متحول يحتقر الإنسان و يعبد المال في الفترة بين الحربين العالميتين. عمل أورويل كغاسل أطباق و يقرر أنها أحقر مهنة في التاريخ و سيراقب الطفيليات و هي تنمو على الأسطح المتسخة للبشرية.
السيرة هنا حالة تأملية للبؤس و درس عظيم.. لكن لا تقرأه و أنت تعيس و إلا ستغرق مع صدق الكاتب في بؤسه و لن تخرج أبدا..
- ملامح سيرة و مسيرة، ابن القرية و الكتاب
الأديب القرضاوي ستجده متألقا على طول أربع أجزاء ممتعة من الحكاية و شخوصها و بإسهاب في استدعاء الخلفيات التاريخية و أبيات الشعر و مأثور الكلام و كنز من الكتب و المعرفة.. ستجد أحيانا روح الفقيه الأصولي الذي قرأ كتب الأقدمين و تعود الإسناد و التوثيق و التحليل مع الاستنباط و الإسقاطات الفقهية و التاريخية.
الأفكار الإسلامية و نقدها و مدرسة الأخوان و رؤية تاريخية نقدية تتحلى بالرقة لكن بالحسم و أعلام مفكريها و عملية نقدية بارعة لسيد قطب..
لأصدقائي المتعالين على أفكار هذه المدرسة و لا يرون إلا القرضاوي الأخواني و شباب الإسلاميين الذي يكره الجميع.. أرجو أن يتمكنوا من التخلي عن الأفكار الفاشية و بجهل و يقرأوا مثل هذا الكتاب المدهش.
- حياتي
أحمد أمين سيملي كتابه على ابنه جلال و قد راح بصره إلا قليلا و سيفرح بشدة حين يقرر طه حسين اعترف به أخيرا كأديب بعد كتابة قصة حياته.. رغم أنها أجمل من كتابه الأيام.
ستجد التاريخ متجسدا و إضاءات بديعة على مناخ مصر أيامها و نقاشات محمد عبده و رفاقه. تعاطفت كثيرا مع صورة التقطها أحمد أمين يوم زواجه و كتب على ظهرها تاريخ اليوم و كلمة مؤادها أنه يتمنى أن يعمل عملا عظيما لوطنه و أمته. نثرات من حياته بأكثر صراحة ستجدها في سيرة حياة ابنه جلال أمين الممتعة بعنوان ماذا علمتني الحياة و رحيق العمر، في كتابين.
- مذكرات طالب بعثة
جانب من حياة لويس عوض و تدويناته عن الفترة الليبرالية بكل ثرائها و بعثته و العودة لمصر.. هتلاقي ملحوظات ذكية في العلاقة بينه كقبطي مصري و الأجانب من ناحية و زملائه المسلمين من ناحية و ملحوظة زي اعتياد المصريين تسمبة أولادهم بأسماء مصرية محايدة لا تهدف لإبراز هوية دينية بالضرورة ثم مرحلة السبعينات و الميل لأسماء دلالتها الدينية أوضح عند الجانبين المتباعدة خطاهم منذ الستينات و السبعينات و كما ستلمس كره جلال أمين الشديد للسادات و فرحه لموته بقدر ما ستلمس كره لويس عوض للفترة الناصرية .. على ما أتذكر..
- مذكرات شاهد للقرن
قصة مناضل فكري من طراز رفيع هو مالك بن نبي الذي تنقلت به الأقدار من وطنه الجزائر إلى عاصمة المحتل باريس و صدمه التساؤل الأول، كيف للفرنسي المتحضر في وطنه أن يتحول لهمجي حين ينتقل للجزائر المحتلة. صدمته الحضارة لكن لم تجرفه فكتب معظم كتبه البديعة تحت عنوان موحد “مشكلات الحضارة” يناقش فيها مشاكل أمته الغارقة أملا في الخلاص.. و تمضي الأيام و نحن أبعد عن أفكار الرجل..و لا زلنا نغرق في متاهاتنا أو كأن مالك بن نبي لم يمر من هنا، كما وصف راشد الغنشوي في مقال له قارن فيه بمعلمة بين فكري سيد قطب و بن نبي.
هناك كتب أخرى تستحق، مثل كتابات زكي نجيب محمود في قصة عقل و حصاد الأيام و روائع توفيق الحكيم في سجن العمر و أجمل ما كتبه عصفور من الشرق و أيضا طريق نيلسون مانديلا الطويل نحو الحرية و سيرة أحمد لطفي السيد و سلامة موسى و كتاب بديع كتبه القرضاوي عن محمد الغزالي رحلة نصف قرن و كتاب عمر التلمساني عن أستاذه الملهم الموهوب بالإضافة لكتاب حسن البنا نفسه مذكرات الدعوة و الداعية و رضوى عاشور في أثقل من رضوى و كتابي أحمد زويل الطريق إلى نوبل و مختصره الرائع عصر العلم و كتاب أنيس منصور البديع في صالون العقاد كانت لنا أيام..
و غيرها مما اجترحته الأقلام من مداد الأيام و الأفكار التي نضجت على مهل و عصارة تجارب خاضت الحياة بحلوها و مرها..
#في_مديح_كتب_السيرة_الذاتية
via Tumblr http://ift.tt/1tqDr8n
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق